الجامع الأموي الكبير (يمين) - كاتدرائية نوتردام (يسار)
مشهدان مهيبان في أسبوع واحد..
في المشهد الأول يزدان الجامع الأموي الكبير بدمشق بلا زينة، تغمره هالات من نور تلتقطها الأعين ولا تراها، بينما تنبعث من فسيفساء جدرانه ورخام أعمدته نسائم منعشة. سقط البعث فبعثت الأمة السورية وبعث الجامع رمز هويتها بروح جديدة متوثبة، يزدهي معماره مختالاً أمام الكاميرات التلفزيونية الناقلة كأنما بني بالأمس وفتحت ساحاته للتو للصلاة الجامعة الأولى. في المشهد الثاني كاتدرائية نوتردام بواجهتها الجميلة ذات الطراز المعماري العريق ينتصب خلفها البرج السهمي المعاد بناؤه؛ كبير الأساقفة يقرع بابها الضخم المزدان بالنقوش، تجيبه الجوقة من داخلها بالأهازيج ثم تمنحه أنغام الأرغن الجليلة الإذن بالدخول بينما تتجول الكاميرا الناقلة للحفل بين جنبات البهو الداخلي العامر بتشكيلات العقود (الأقواس) والأعمدة والأقبية والزخارف التي محت أعمال الترميم عنها غبار الزمن.
خلق التزامن العفوي بين المشهدين في وقت سابق من هذا الشهر تقاطعات عدة رغم انفصالهما الظاهري. فكلا الصرحين كان في عداد المفقودين. الجامع أمات روحه استبداد غاشم، والكاتدرائية أحرقتها شعلة الحداثة قبل أن تلتهمها النيران.
أما الجامع فقد هرعت إليه جموع السوريين الغفيرة بعد أسبوع من السيولة التامة في البلاد، في لحظة اختيار جماعي حر، تعلقا بعمود الخيمة الراسخ في وجه رياح المجهول العاتية التي يترقب الجميع هبوبها من كل اتجاه. كذلك الفرنسيون فهموا في لحظة إدراك جماعي عفوية أدهشتهم أن الكاتدرائية التي لا تشغل إلا حيزاً هامشياً في الحياة العامة الفرنسية هي في الواقع رمز للأمة. أحس الفرنسيون وقد هددت العلمانية المتطرفة اجتماعهم بالتفسخ والتحلل بألسنة النيران تلتهم هويتهم ذاتها، فهرعوا لنجدتها وإعادة إحيائها بسرعة وبأي ثمن.
وفي ظلال المذابح الإسرائيلية الرهيبة، يعيد تزامن لحظة الاحتفال السورية مع لحظة الفخر الفرنسية، وكلتاهما تخفيان وراءهما قلقاً محلياً عميقاً، التذكير بتاريخ معقد وقاسٍ من الاستعمار الفرنسي والأوروبي لبلادنا ودوره المحوري في ما آل إليه حال سوريا وسائر الشام اليوم. لكن في هذا التزامن أيضاً تذكير بالمشترك بين الحضارتين. اعتبر ماكرون الكاتدرائية ملكاً للعالم أجمع، وهي حقاً كذلك، وينطبق الأمر ذاته على الجامع الأموي. والصرحين، باعتبارهما نافذتين على عالم السماء، هدفهما النهائي خلق صورة حية معبرة قدر الإمكان عن العالم الإلهي المطلق اللامتناهي. ومنوط بالعمارة صياغة المساحات والأشكال والألوان والزخارف والضوء لتوليد التأثيرات الحسية التي ترسم في الأذهان هذه الصورة. وهذا ما جعل اللقطات التلفزيونية التي أمعنت التجول في العمارة الرائعة للجامع والكاتدرائية تحبس الأنفاس وتبعث على الجلال والرهبة، إذ أوردتنا هذا العالم العلوي وذكرت بشخوص الإنسانية التلقائي نحوه خصوصاً في لحظات اضطرابها وفزعها.
تود هذه المقالة التأكيد على هذا المشترك الحضاري، وهو أعمق بكثير من ظاهر التشابه بين الجامع والكاتدرائية كداري عبادة بديعي التصميم ساقهما القدر معاً إلى صدارة المشهد في لحظة حرجة من تاريخ البشر. إنها قصة ملهمة لتلاقح ثقافي حضاري متعدد الأوجه والأشكال، كانت فنون العمارة أحد مستوياته. فمن المدهش، وهو ما لم يكن معروفاً خارج أوساط ضيقة من المختصين، أن العمارة القوطية، التي تعد كاتدرائية نوتردام أحد أهم رموزها، قد تأثرت بشكل لافت بالعمارة الإسلامية التي تبلورت معالمها الأولى في الجامع الأموي الكبير.
فالجامع المبني في بدايات القرن الثامن الميلادي كان قد حدد معالم العمارة الإسلامية الوليدة متأثراً بفنون العمارة المسيحية المحلية في الشام التي انصهر في بوتقتها تراث حضارات المشرق القديم وحضارة الروم (البيزنطية). وفي أواخر القرن ذاته، بلغت العمارة الإسلامية ذروة من ذرى نضجها في جامع قرطبة الكبير بالأندلس وأضحت طرازاً معمارياً قائماً بذاته، تأثرت به العمارة الأوروبية تأثراً عميقاً عبر رحلة ثرية وطويلة قبل أن تبني الأخيرة شخصيتها المستقلة. وتستعرض المقالة في ما يلي هذه الرحلة الملهمة.
إن المهتم بالعمارة الأموية والفاطمية والمملوكية، المتتبع لطرزها وعناصرها المعمارية والإنشائية سوف تلتقط عينه بلا جهد يذكر تكرار بعض هذه العناصر بتنويعات مختلفة في الأبنية الدينية والمدنية ذات الطراز القوطي المنتشرة في أوروبا. هذا ما حدث مع كاتب هذه المقالة بشكل عفوي، وبالبحث في تاريخ العمارة القوطية لاستطلاع أسرار هذا التوارد يقابل المرء أول ما يقابل الرأي الشائع بأنها تطور طبيعي لمدارس العمارة الأوروبية الأسبق. لكن بمزيد من البحث يعثر المرء على آراء أكثر تعمقاً. ولنبدأ برؤية كريستوفر رين. كان رين عالماً رياضياً بريطانياً بارزاً وواحداً من أعظم المعماريين البريطانيين، اشتهر بتصميم كاتدرائية سانت بول الشهيرة في لندن. أولى رين جذور الطراز المعماري القوطي اهتماماً خاصاً في نهاية حياته، رغم عدم ميله إليه، حيث كتب في بدايات القرن الثامن عشر:
«كيف يمكن أن ننسب للقوط أسلوباً معمارياً لم يظهر إلا في القرن العاشر من عصرنا؟ أي بعد عهود من انهيار جميع الممالك التي أقامها القوط على أنقاض الإمبراطورية الرومانية، وفي وقت كان فيه اسم القوط ذاته قد نسي تماماً. من خلال جميع سمات العمارة الجديدة، لا يمكن نسبتها إلا إلى الساراسِن [وهو المسمى الذي شاع في أوروبا عن المسلمين والعرب حتى القرن التاسع عشر]».
كان المؤرخ والمعماري جورجيو فازاري الذي عاش في القرن السادس عشر أول من وصف هذا الطراز المعماري بـ«القوطي»، حيث اعتقد أن القوطيين قد أقاموا عمائرهم على هذا النسق بعدما هدموا العمائر الرومانية. يختلف رين مع هذه الرؤية، ويدفع في مذكراته بأن الحروب الصليبية أعطت الأوروبيين «فكرة عن الأعمال الساراسِنية، التي قاموا لاحقاً بتقليدها في الغرب، ثم أخذوا يحسنونها مع مرور الوقت أثناء بناء الكنائس». ولقد اتفق عديد من المعماريين والمؤرخين الأوروبيين في أواخر القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر مع رين في رد العمارة القوطية إلى العمارة الإسلامية، ولكنهم رأوا أن التأثير العربي الإسلامي قد جاء من جهة الأندلس أولاً قبل عهود الحروب الصليبية.
ولقد استعرضت تونيا راكيخو الأكاديمية الإسبانية بكلية الفنون الجميلة بجامعة كومبلوتنسي في مدريد بشكل تفصيلي كوكبة من الآراء الداعمة لهذا الاتجاه في بحثها المنشور في مجلة «برلنجتون» المتخصصة العريقة بعنوان «الكاتدرائيات العربية: العمارة الموريسكية كما رآها المسافرون البريطانيون». وأبرزت من بينها رؤية المعماري الإنجليزي ستيفن ريو الذي دعا هو الآخر في كتابه «الطرز الإغريقية في العمارة» إلى تسمية العمارة القوطية بـ«العربية، الساراسِنية، أو الموريسكية»، مستطرداً «لقد تم إدخال هذا الطراز إلى أوروبا عبر إسبانيا».
أما الدراسة الأوفى في هذا المضمار فقد قامت بها ديانا دارك الإنجليزية التي درست العربية بجامعة أوكسفورد ثم حصلت على ماجستير الفنون المعمارية الإسلامية من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن. ولقد عملت لمدة تتجاوز العشرين عاماً في عدد من الدول العربية وخصوصاً سوريا حيث ابتاعت منزلاً أثرياً أعادت ترميمه وعاشت فيه. مكن هذا كله دارك من الانغماس في تاريخ المنطقة وعمارتها وثقافتها بشكل دفعها، في أعقاب حريق نوتردام، إلى تأليف كتابين يقع كل منهما في أكثر من 400 صفحة، الأول بعنوان «السرقة من الساراسِن: كيف شكلت العمارة الإسلامية أوروبا»، والثاني صدر منذ بضعة أسابيع فقط بعنوان «إسلامِسك: الحرفيون المنسيون الذين بنوا آثار أوروبا في العصور الوسطى». يتسم الكتابان بغزارة المادة التوثيقية المصورة والشروح التفصيلية وعمق الدراسة التحليلية المقارنة التي تعتمد على قائمة غنية من المخطوطات والمراجع الفنية والتاريخية، وهو ما يشي بكم المجهود البحثي الذي بذلته دارك لدعم أطروحتها.
ليس في الأمر سرقة، تلك قناعة دارك، بل تلاقح ثقافي طبيعي. لكنها تعمدت الإشارة إلى أن مسمى ساراسِن الذي أطلقه الصليبيون على مقاوميهم من سكان المنطقة العربية؛ وهو النطق الإنجليزي لكلمة «ساراكين» اليونانية، ربما ينحدر من كلمة «سارقين» العربية. فالعنوان إذاً للسخرية من الوصف الأوروبي المحتمل للعرب والمسلمين باللصوص في الوقت الذي استعارت فيه أوروبا كثيراً من أساليبهم المعمارية كما يفصل الكتاب. في الواقع، لا تتوقف دارك في كتابيها عن التأكيد على دور التعايش السلمي والتثاقف بين المسلمين والمسيحيين واليهود في أوروبا في استلهام هذه الأساليب المعمارية وتطويرها، خصوصاً في مناطق التماس الجغرافي بين الحضارتين.
من أهم العناصر المعمارية المميزة للعمائر القوطية العقود المدببة والأقبية المضلعة، وكلاهما يساعد في توزيع الأحمال الإنشائية بشكل أكثر كفاءة، وهو ما سمح بأبنية ذات هياكل أطول وأخف وزناً مقارنة بالعمائر الأوروبية الأسبق. كذلك من سمات الطراز القوطي النوافذ المعقودة (أي التي تنتهي بعقد) ذات الزجاج الملون والمعشق، والعقود المفصصة (العقود متعددة الأقواس أو الفصوص) وبخاصة العقد الثلاثي، ونوافذ الورد (أي التي تتخذ شكلاً دائرياً كالوردة). كما تمتاز بالأبراج السهمية المرتفعة والزخارف الحجرية المحيطة بالنوافذ والعقود.
جزء من واجهة قوطية (يمين) قبو مضلع (يسار)
يسمى العقد المدبب في أوروبا العقد القوطي (أو القوس القوطي) كونه العنصر المركزي في هوية العمارة القوطية. ظهر هذا العقد للمرة الأولى في استخدامات بسيطة محدودة النطاق في أواخر عهد بيزنطيي المشرق، ثم انتقل مع المسلمين إلى استخدامات واسعة متشعبة وأشكال متنوعة متقدمة هندسياً، لما بات يعرف لديهم بالعقد المخموس بأنواعه. أضحى هذا العقد «ممثلاً للهوية الثقافية للعمارة الإسلامية» على حد تعبير بيتر درابر الأستاذ المتفرغ في تاريخ العمارة بجامعة لندن، الذي يذكر أيضاً في المحاضرة التي ألقاها عام 2004 في نهاية مدة رئاسته لجمعية مؤرخي العمارة البريطانية:
«كان هذا [العقد المدبب] جزءاً لا يتجزأ من تمييز العمارة الخاصة بالدين الجديد، التي تجاوزت مجرد إنشاء نمط جديد لتكون تعبيراً عن لغة معمارية جديدة تضمنت زخارف استثنائية ومعالجة مبتكرة لميزات إنشائية لم تكن مستخدمة من قبل … لقد أصبح مقبولاً لدى معظم دارسي عمارة القرون الوسطى الغربية أن العقد المدبب تم استيراده إلى أوروبا الغربية من العمارة الإسلامية».
أجزاء من واجهات عمائر قوطية حديثة بنيت في القرن التاسع عشر ضمن حركة إحيائية للعمارة القوطية القديمة
أما رحلة الاستيراد تلك فقد تتبعتها دارك في الفصل السادس من كتابها الأول انطلاقاً من عمائر الأمويين وصولاً إلى عمائر القرن التاسع مثل مسجد القيروان بتونس وأحمد ابن طولون بالقاهرة. ومن ثم تروي كيف أُعجب التجار الإيطاليون في سفراتهم إلى شمال أفريقيا بهذه اللغة المعمارية الجديدة فاستعاروا مفرداتها في بناء كاتدرائية أمالفي جنوب إيطاليا، ومنها انتقلت العقود المدببة إلى دير مونتي كاسينو، ومن ثم إلى دير كلوني في فرنسا. كانت هذه الشرارة الأولى لانتشار العقد المدبب إلى فرنسا وإنجلترا على حد ذكر جان بوني أستاذ الفنون الجميلة بجامعتي كمبردج وكاليفورنيا بيركلي في كتابه «العمارة القوطية الفرنسية في القرنين الثاني والثالث عشر».
تشير دارك كذلك إلى التأثير المباشر للإبداعات المعمارية الأندلسية على تطور العقود الثلاثية والخماسية والمتداخلة والمتشابكة التي تزين واجهات العمائر القوطية. وتخص بالذكر جامع قرطبة الكبير الذي بني في القرن الثامن وأجريت عليه التوسعات حتى القرن العاشر. ضمت مباني الجامع أنواعاً من العقود غير مسبوقة في أوروبا، وكثير منها غير مسبوق في أي منشأة أخرى. منها العقود المفصصة الثلاثية (وتسمى العقود المدائنية) والخماسية ومتعددة الفصوص، هذا فضلاً عن العقود المركبة والمتداخلة والمزدوجة وكذلك صفوف العقود المتشابكة (أو المعشقة)، وعقود حدوة الفرس والعقود البصلية. كما وظفت تشكيلات من هذه العقود في واجهات الجامع كعقود صماء، وهي تلك العقود التي تبنى على واجهات الجدران لأغراض زخرفية بلا وظيفة إنشائية وتعد إبداعاً حصرياً للعمارة الإسلامية.
من أعلى اليمين: عقود مفصصة، عقد حدوة الفرس، عقود مزدوجة، عقود مفصصة متداخلة، قبة مضلعة، عقود صماء، وعقود متشابكة صماء
تستشهد دارك بكتاب جان بوني مرة أخرى إذ يوضح بدء انتشار الأقبية المضلعة في إنجلترا وإيطاليا في غضون 10 سنوات فقط من استيلاء الأوروبيين المسيحيين على طليطلة التي احتضنت مجموعة من «أفضل الأمثلة على الأقبية المضلعة الإسلامية» بتعبيره. من ثم تستعرض دارك مسجد باب المردوم في طليطلة وتخلص بعد استعراض مستفيض في أجزاء متفرقة من كتابيها إلى أن:
«هنا في قرطبة وطليطلة، تم اتخاذ الخطوات الأولى نحو تطور الأقبية القوطية المضلعة وذات الأضلاع المروحية التي أصبحت بالتدريج أكثر تطوراً على مدار القرنين الثاني عشر والثالث عشر».
أما فتحات الورد المفصصة التي تميز العمارة القوطية رباعية كانت أم خماسية أم سداسية الفصوص، صماء كانت أم نافذة، فتتماثل مع الأنماط الزخرفية الإسلامية كالنوافذ سداسية الفصوص التي تظهر في قبة مسجد القيروان بتونس ومئذنة الجامع الأموي بحلب، والفتحات الوردية المثمنة الصماء التي تزين الجدران الداخلية لمسجد ابن طولون، وكلها عمائر بنيت في القرن الثامن. يسترعي الانتباه اقتران هذه النوافذ الدائرية المفصصة في العمائر القوطية في أحيان كثيرة بنافذتين طوليتين معقودتين لتكون معاً مجموعة ثلاثية تشبه القنديلية، ذلك العنصر المعماري المميز للعمائر الإسلامية في مصر، الذي يتكون في نسخته المملوكية الأبسط من نافذة دائرية تسمى قمرية تعلو نافذتين طوليتين معقودتين تسمى كل منهما شمسية. يطلق المغاربة على الشمسية اسم الشماس. ولقد سمى الإسبان النوافذ الطولية المزدوجة (أو النوافذ التوأمية) التي تتوسطها دعامة في العمائر الإسلامية في الأندلس (الچميث Aljemiz) وهو تأثر واضح بمسمى الشماس، وكانت قد ظهرت للمرة الأولى في مسجد باب المردوم بطليطلة.
أما الزجاج الملون والمعشق الذي يزين هذه النوافذ القوطية، فتستعرض دارك في أماكن متفرقة من كتابيها أمثلة عديدة على استلهام العمائر الأوروبية له من العمائر الإسلامية بداية من القرن الثاني عشر مبرزة تأثر صناع الزجاج الأوروبيين بطرق التصنيع في سوريا وحتى استيراد المواد الخام للنوافذ من الشام.
من اليمين: كنيسة قبطية، جامع القيروان، جامع ابن طولون، وجامع حلب
قبل شيوع الفن المعماري القوطي في القرن الثاني عشر كانت تسود أوروبا أنماط وطرز معمارية أخرى، كان رين وعدد من مجايليه يرون فيها قدراً أكبر من التناسق الهندسي والأناقة المعمارية من الفن القوطي. وفي القرن التاسع عشر، بعد مرور قرن على وفاة كريستوفر رين، شاعت بين أوساط المعماريين الأوروبيين نظرية ضمت هذه الأنماط في مدرسة معمارية وسيطة ردت نشأتها إلى عصر شارلمان في القرن الثامن الميلادي. تدين هذه المدرسة الوسيطة بشكل كامل، وفق هذه النظرية، للعمارة الرومانية التي طمس القوط معالمها. لذلك أطلق على هذه المدرسة المفترضة اسم «العمارة الرومانِسكية» أي «على الطراز الروماني»، وهو مصطلح صاغه المعماري الفرنسي دي جيرفيل، الذي يعد أحد أوائل المؤرخين المعماريين الفرنسيين.
تفند دارك هذه الفرضية بتعمق، متسائلة عما إذا كانت العمارة الرومانسكية تعد بحق إحياء للعمارة الرومانية الخالصة أم إن تأثير العمارة الإسلامية قد امتد إليها. وإجابة عن هذا التساؤل، يوضح الكتابان أن استلهام العناصر المعمارية الإسلامية لم يقتصر على العمائر القوطية، حيث يفصلان كيفية تسرب هذه العناصر إلى أوروبا أيضاً في عهود العمارة الرومانسكية المفترضة عبر طرق عدة، قبل أن تنتقل لاحقاً إلى العمائر القوطية. فمثلاً يروي الفصل الرابع من كتابها الأول أن الأثر الأكبر للحملات الصليبية على العمارة الأوروبية تمثل فيما يسمى بالكنائس الدائرية التي أنشأها فرسان الهيكل العائدون من المشرق في أنحاء القارة الأوروبية بداية من القرن الثاني عشر تأثراً بالتصميم الداخلي لمسجد قبة الصخرة الذي ظنه الصليبيون معبد هيكل سليمان التوراتي. ومن أول وأهم الأمثلة على هذه الكنائس الدائرية كنيسة المعبد في لندن.
كذلك تزامنت عودة الصليبيين إلى أوروبا مع انتشار بناء الأبراج الشبيهة بمآذن المساجد في القلاع والحصون وغيرها من الأبنية في إيطاليا وفرنسا وألمانيا، مثل قصر فيكيو وكنيسة سان أبونديو في إيطاليا، ودير سانت إيتيان بكان في فرنسا وغيرها. تشابهت سمات هذه الأبراج مع المآذن المربعة في مساجد الشرق وأقدمها مئذنة العروس في المسجد الأموي الكبير ومآذن مساجد المغرب والأندلس. كما ظهرت في ألمانيا إبان عودة الحملات الصليبية الأبراج الدائرية والمثمنة الأشبه بمآذن المساجد المشرقية مثل كاتدرائية سان بيتر في راينلاند، وكنيسة الرسل المقدسين بكولونيا.
(أ) مئذنة العروس بالجامع الأموي، (ب) أبراج كنيسة أبونديو (ج) برج قصر فيكيو (د) كنيسة سان بيتر في راينلاند (هـ) كنيسة الرُسل المقدسين بكولونيا
وعلاوة على العقد المخموس (أو المدبب)، تسهب دارك في كتابيها في تتبع التأثيرات الأخرى التي جلبها تجار صقلية وجنوب إيطاليا من مدن شمال أفريقيا والشام إلى إيطاليا ومنها إلى شمال وغرب أوروبا. من هذه التأثيرات نظام المداميك الحجرية التي تتبادل اللونين الأبيض والأسود (وهو ما يعرف في العمارة الإسلامية بالحجر الأبلق) أو الأبيض والملون (ويعرف بالحجر المشهر) الذي شاع في عمائر الشام ومصر في عصور الأيوبيين والمماليك، وإن ظهر في العصر الأموي في العقود الداخلية بمسجد قبة الصخرة بالقدس وفي الأندلس بجامع قرطبة الكبير. يظهر التأثر بهذا الطراز بشكل واضح في الكثير من العمائر الأوروبية الرومانسكية، مثل كاتدرائية لو بيو و دير فيزلاي في فرنسا، كنيسة سانتيسيما في ميسينا الإيطالية، وكاتدرائية جنوة، وكنيسة سانت ميخائيل في هيلدسهايم بألمانيا، وكذلك كاتدرائية أمالفي سابقة الذكر، التي رممت في القرن التاسع عشر على طراز هجين بين حجر الأبلق الإسلامي، والنورماني. بل إن من المثير أن الحجر الأبلق يظهر في العقود الداخلية لكنيسة بالاتين في آخن بألمانيا، التي بنيت في القرن الثامن في عهد شارلمان على الطراز الكارولِنجي والتي يعدها كثيرون في الأوساط المعمارية الأوروبية من الأبنية المؤسسة لما أطلق عليه فن العمارة الرومانِسكية.
نظام الحجر الأبلق والمشهر في (أ) كنيسة بالاتين في ألمانيا، (ب) كاتدرائية أمالفي، (ج) كنيسة سانتيسيما، (د) كادترائية جنوة، (هـ) وكنيسة سانت ميخائيل، (و) كاتدرائية لو بيو
تستهل دارك كتابها الثاني بمناقشة زخارف الخطوط المتعرجة (الزجزاجية) التي تعد أحد أهم العناصر الزخرفية واسعة الانتشار في العمارة النورمانية في صقلية وفي إنجلترا (التي تعتبر نسخاً محلية من العمارة الرومانسكية) كما يظهر مثلاً في كاتدرائيتي دورهام في إنجلترا ومونريال في باليرمو. يشيع أن هذه الخطوط المتعرجة ابتكار نورماني، لكن دارك وجدت أنها واسعة الانتشار في زخارف العمائر الإسلامية السابقة على عصر الرومانسك. قد يومئ ما تطرحه دارك هنا إلى ما كتبه المؤرخ الإنجليزي الشهير هنري هالام في كتابه «نظرة على حال أوروبا خلال العصور الوسطى»، حيث يقول «كانت الكاتدرائيات الأنجلونورمانية، بشكل عام، تقليداً غير متقن للمباني الساراسنية في إسبانيا».
كان هذا العنصر الزخرفي مفتاح رحلة بحث جديدة مضنية جمعت فيها دارك كما من الدلائل قالت في محاضرة ألقتها بمناسبة صدور كتابها الثاني، إنها لم تتمكن من تضمينه ثلثها تقريباً لضيق المساحة! ولضيق المساحة هنا أيضاً نكتفي من هذه الأنماط بذكر الشرافات (عرائس السماء) والأسنان الزخرفية التي عرفت في أوروبا باسم الأسنان الفينيسية (Venetian Dentils) نسبة إلى مدينة البندقية، النوافذ التوأمية وتشكيلات العقود الصماء، والأسقف الخشبية المزخرفة، والزخارف النباتية والهندسية والحيوانية، وزخارف الأشرطة الكتابية بالخط الكوفي، والقباب الضريحية، وحتى المقرنصات والحنيات الركنية في القباب.
يسلط كتاب «إسلامِسك» كذلك الضوء على ما تواتر من أخبار وقصص المهندسين والحرفيين والبنائين الذين قاموا بتصميم وبناء العمائر الأوروبية في العهدين الرومانسكي والقوطي. يسوق الكتاب ما لاحظه مختصون كثر (مثل فيلكس أرنولد وتوماس جراهام جاكسون) من الاستخدام المتقدم للرياضيات والهندسة لتصميم المساحات والعناصر المعمارية والزخرفية في كثير من العمائر الرومانسكية؛ وكلها معارف لم تكن تتوافر لدى الأوروبيين في هذه الفترة، وهو ما دفع دارك للاعتقاد بأن هذه العمائر قد صممت وبنيت على الأرجح بإشراف أو مساهمة معماريين وبنائين مسلمين، أو على الأقل ممن عاشوا في ظل الحكم الإسلامي حيث توافرت تلك المعارف والخبرات. من الدلائل القوية التي ساقتها على هذا الطرح اكتشاف أرقام عربية محفورة في عناصر إنشائية داخل كاتدرائية وِلز، وكذلك كاتدرائية سالزبري، وكلاهما من عمائر القرنين الثاني والثالث عشر القوطية الإنجليزية. خلصت دارك بعد استقصاء الأمر إلى أنه ترقيم استخدمه البناؤون للتذكير بالمواضع الصحيحة لتلك العناصر والأجزاء في المنشأ، علماً أن الأرقام العربية لم تشِع بين الإنجليز إلا في القرن الخامس عشر.
كذلك أظهرت بعض العمائر معرفة متقدمة بعلوم البصريات والفلك، كدير فيزلاي في فرنسا الذي تنتظم فيه المساحات الضوئية الساقطة من النوافذ معاً على نفس الاستقامة في منتصف الردهة تماماً في يوم الانقلاب الصيفي (أطول أيام السنة)، مما ينبئ بحسابات دقيقة لاتجاهات البناء تراعي حركة الشمس والضوء لم تكن معروفة في أوروبا وقت بناء الدير. المثير أن العقود الداخلية للدير بنيت أيضاً بنظام الحجر المشهر. قد يدعم هذا كله الاعتقاد بإسهام بنائين مدربين على أساليب العمارة الإسلامية ومعارفها في بناء هذا الدير وغيره من العمائر.
استقامة البقع الضوئية من النوافذ في منتصف الردهة في دير فيزلاي في يوم الانقلاب الصيفي
وانطلاقاً من هذا الاعتقاد، يستغرق الكتاب في رحلة مثيرة (في فصليه الرابع والخامس) تقتفي أثر البنائين العرب والمسلمين في أوروبا بعد الحروب الصليبية والسيطرة المسيحية على إسبانيا، والنورمانية على صقلية. يزيل الكتاب الغبار عن أسماء وحكايا عديدين ممن حفظت سيرتهم في فرنسا وألمانيا وإنجلترا وإيطاليا وإسبانيا. حتى غلافه الأمامي تزينه لوحة «بينيديكت يؤسس اثني عشر ديراً» لرسام عصر النهضة الإيطالي «إل سودوما» التي يظهر فيها بناء في زي عربي إسلامي يشارك في بناء الدير تحت إشراف القديس بنديكت!
في الأخير تصل دارك إلى خلاصة مفادها:
«إن عناصر العمارة الرومانسكية كانت نتيجة حتمية للروابط الثقافية والفكرية والاقتصادية بين أوروبا الغربية والعالم الإسلامي خلال القرون التاسع والعاشر والحادي عشر، وقد أوجدت هذه الروابط الخبرات المطلوبة لتشييد هذه المباني. هذه الخبرات لم تكن موجودة في أي مكان في أوروبا بين السكان الأصليين، لكنها كانت متوفرة في مهارات الحرفيين العاملين في العالم الإسلامي، لا سيما البنائين والنجارين.
هؤلاء الحرفيون المهرة دخلوا أوروبا، في البداية إلى إيطاليا عبر صقلية، ومن إسبانيا إلى الشمال، بطرق متنوعة. بعضهم تم استئجاره بشكل مباشر، وبعضهم جاء طوعاً إلى أماكن توافر العمل، وآخرون أجبروا على القدوم نتيجة الفتوحات (المسيحية). إلى جانب مهاراتهم، جلبوا معهم تراثاً إسلامياً تجلى في عديد من التفاصيل التصميمية التي دمجوها في المباني. هذه التفاصيل توفر أدلة على التأثيرات الحقيقية وأصول ما يطلق عليه ’الرومانسكية’، الذي يمكن أن يسمى بشكل أكثر دقة الإسلامِسكية«
العمارة الإسلامِسكية! اصطلاح ثوري سوف يثير الجدل بالتأكيد؛ لكن الكتاب يقدم طرحه بقوة «تتجاوز الشكوك» وفق تعبير تيم وينتر، الأكاديمي المتخصص في الدراسات الإسلامية بجامعة كمبردج، ويعتبره روان ويليام كبير أساقفة كانتربري في إنجلترا سابقاً بمثابة ثورة حقيقية.
بطبيعة الحال سوف يتناول مؤرخو العمارة المختصون أطروحة دارك وأدلتها بالتدقيق والتحليل والنقد. لكن على كل حال يمكن اعتبار ما انتهت إليه في كتابيها بمثابة توكيد لمقولة درابر التي ختم بها قبل 20 عاماً محاضرته المشار إليها أمام معماريي بريطانيا، ونختم بها هذه المقالة، «لا يمكن كتابة تاريخ العمارة الغربية في العصور الوسطى، مثل تاريخ الثقافة الغربية بشكل عام، دون الإشارة إلى الدروس المستفادة من الثقافة الإسلامية، في حين يمكن كتابة تاريخ العمارة الإسلامية في العصور الوسطى إلى حد كبير دون الإشارة إلى الغرب».
# سوريا # باريس # مجتمع # تاريخ # العمارة الإسلامية # دمشق # فرنسا